فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم لما بين أن الموت كائن والحشر بعده لازم، بين ما يكون بعد الحشر ليكون ذلك باعثًا للمكلف على العمل الصالح، وزاجرًا للمتمرد عن العصيان والكذب فقال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)}.
هذا وجه تعلقه معنى، وأماتعلقه لفظًا فنقول: لما قال: {فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا} [الواقعة: 86، 87] وكان فيها أن رجوع الحياة والنفس إلى البدن ليس تحت قدرتهم ولا رجوع لهم بعد الموت إلى الدنيا صار كأنه قال: أنتم بعد الموت دائمون في دار الإقامة ومجزيون، فالمجزى إن كان من المقربين فله الروح والريحان، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في معنى الروح وفيه وجوه الأول: هو الرحمة قال تعالى: {وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} [يوسف: 87] أي من رحمة الله الثاني: الراحة الثالث: الفرح، وأصل الروح السعة، ومنه الروح لسعة ما بين الرجلين دون الفحج، وقرىء، {فَرَوْحٌ} بضم الراء بمعنى الرحمة.
المسألة الثانية:
في الكلام إضمار تقديره: فله روح أفصحت الفاء عنه لكونه فاء الجزاء لربط الجملة بالشرط فعلم كونها جزاء، وكذلك إذا كان أمرًا أو نهيًا أو ماضيًا، لأن الجزاء إذا كان مستقبلًا يعلم كونه جزاء بالجزم الظاهر في السمع والخط، وهذه الأشياء التي ذكرت لا تحتمل الجزم، أما غير الأمر والنهي فظاهر، وأما الأمر والنهي فلأن الجزم فيهما ليس لكونهما جزاءين فلا علامة للجزاء فيه، فاختاروا الفاء فإنها لترتيب أمر على أمر، والجزاء مرتب على الشرط.
المسألة الثالثة:
في الريحان، وقد تقدم تفسيره في قوله تعالى: {ذُو العصف والريحان} [الرحمن: 12] ولكن هاهنا فيه كلام، فمنهم من قال: المراد هاهنا ما هو المراد ثمة، إما الورق وإما الزهر وإما النبات المعروف، وعلى هذا فقد قيل: إن أرواح أهل الجنة لا تخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليهم بريحان من الجنة يشمونه، وقيل: إن المراد هاهنا غير ذلك وهو الخلود، وقيل: هو رضاء الله تعالى عنهم فإذا قلنا: الروح هو الرحمة فالآية كقوله تعالى: {يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ ورضوان وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} [التوبة: 21] وأما: {جَنَّةُ نَعِيمٍ} فقد تقدم القول فيها عند تفسير السابقين في قوله: {أُوْلَئِكَ المقربون فِي جنات النعيم} [الواقعة: 11، 12] وذكرنا فائدة التعريف هناك وفائدة التنكير ههنا.
المسألة الرابعة:
ذكر في حق المقربين أمورًا ثلاثة هاهنا وفي قوله تعالى: {يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم} [التوبة: 21] وذلك لأنهم أتوا بأمور ثلاثة وهي: عقيدة حقة وكلمة طيبة وأعمال حسنة، فالقلب واللسان والجوارح كلها كانت مرتبة برحمة الله على عقيدته، وكل من له عقيدة حقة يرحمه الله ويرزقه الله دائمًا وعلى الكلمة الطيبة وهي كلمة الشهادة، وكل من قال: لا إله إلا الله فله رزق كريم والجنة له على أعماله الصالحة، قال تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يقاتلون في سَبِيلِ الله} [التوبة: 111] وقال: {وَنَهَى النفس عَنِ الهوى فَإِنَّ الجنة هي المأوى} [النازعات: 40، 41] فإن قيل: فعلى هذا من أتى بالعقيدة الحقة، ولم يأت بالكلمة الطيبة ينبغي أن يكون من أهل الرحمة ولا يرحم الله إلا من قال: لا إله إلا الله، نقول: من كانت عقيدته حقة، لابد وأن يأتي بالقول الطيب فإن لم يسمع لا يحكم به، لأن العقيدة لا اطلاع لنا عليها فالقول دليل لنا، وأما الله تعالى فهو عالم الأسرار، ولهذا ورد في الأخبار أن من الناس من يدفن في مقابر الكفار ويحشر مع المؤمنين، ومنهم من يدفن في مقابر المسلمين ويحشر مع الكفار لا يقال: إن من لا يعمل الأعمال الصالحة لا تكون له الجنة على ما ذكرت، لأنا نقول: الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن عقيدته الحقة وكلمته الطيبة لا يتركانه بلا عمل، فهذا أمر غير واقع وفرض غير جائز وثانيهما: أنا نقول من حيث الجزاء، وأما من قال: لا إله إلا الله فيدخل الجنة، وإن لم يعمل عملًا لا على وجه الجزاء بل بمحض فضل الله من غير جزاء، وإن كان الجزاء أيضًا من الفضل لكن من الفضل ما يكون كالصدقة المبتدأة، ومن الفضل مالا كما يعطي الملك الكريم آخر والمهدي إليه غيرملك لا يستحق هديته ولا رزقه.
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
في السلام وفيه وجوه أولها: يسلم به صاحب اليمين على صاحب اليمين، كما قال تعالى من قبل: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلًا سلاما سلاما} [الواقعة: 25، 26]، ثانيها: {فسلام لَّكَ} أي سلامة لك من أمر خاف قلبك منه فإنه في أعلى المراتب، وهذا كما يقال لمن تعلق قلبه بولده الغائب عنه، إذا كان يخدم عند كريم، يقول له: كن فارغًا من جانب ولدك فإنه في راحة.
ثالثها: أن هذه الجملة تفيد عظمة حالهم كما يقال: فلان ناهيك به، وحسبك أنه فلان، إشارة إلى أنه ممدوح فوق الفضل.
المسألة الثانية:
الخطاب بقوله: {لَكَ} مع من؟ نقول: قد ظهر بعض ذلك فنقول: يحتمل أن يكون المراد من الكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وحينئذ فيه وجه وهو ما ذكرنا أن ذلك تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم غير محتاجين إلى شيء من الشفاعة وغيرها، فسلام لك يا محمد منهم فإنهم في سلامة وعافية لا يهمك أمرهم، أو فسلام لك يا محمد منهم، وكونهم ممن يسلم على محمد صلى الله عليه وسلم دليل العظمة، فإن العظيم لا يسلم عليه إلا عظيم، وعلى هذا ففيه لطيفة: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم مكانته فوق مكانة أصحاب اليمين بالنسبة إلى المقربين الذين هم في عليين، كأصحاب الجنة بالنسبة إلى أهل عليين، فلما قال: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أصحاب اليمين} كان فيه إشارة إلى أن مكانهم غير مكان الأولين المقربين، فقال تعالى: هؤلاء وإن كانوا دون الأولين لكن لا تنفع بينهم المكانة والتسليم، بل هم يرونك ويصلون إليك وصول جليس الملك إلى الملك والغائب إلى أهله وولده، وأما المقربون فهم يلازمونك ولا يفارقونك وإن كنت أعلى مرتبة منهم.
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قال هاهنا: {مِنَ المكذبين الضالين} وقال من قبل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون المكذبون} [الواقعة: 51] وقد بينا فائدة التقديم والتأخير هناك.
المسألة الثانية:
ذكر الأزواج الثلاثة في أول السورة بعبارة وأعادهم بعبارة أخرى فقال: {فأصحاب الميمنة} [الواقعة: 8] ثم قال: {وأصحاب اليمين} [الواقعة: 27] وقال: {وأصحاب المشئمة} [الواقعة: 9] ثم قال: {وأصحاب الشمال} [الواقعة: 41] وأعادهم ههنا، وفي المواضع الثلاثة ذكر أصحاب اليمين بلفظ واحد أو بلفظين مرتين، أحدهما غير الآخر، وذكر السابقين في أول السورة بلفظ السابقين، وفي آخر السورة بلفظ المقربين، وذكر أصحاب النار في الأول بلفظ {وأصحاب المشئمة} ثم بلفظ {الشمال} ثم بلفظ {المكذبين} فما الحكمة فيه؟ نقول: أما السابق فله حالتان إحداهما في الأولى، والأخرى في الآخرة، فذكره في المرة الأولى بماله في الحالة الأولى، وفي الثانية بماله في الحالة الآخرة، وليس له حالة هي واسطة بين الوقوف للعرض وبين الحساب، بل هو ينقل من الدنيا إلى أعلى عليين، ثم ذكر أصحاب اليمين بلفظين متقاربين، لأن حالهم قريبة من حال السابقين، وذكر الكفار بألفاظ ثلاثة كأنهم في الدنيا ضحكوا عليهم بأنهم أصحاب موضع شؤم، فوصفوهم بموضع الشؤم، فإن المشأمة مفعلة وهي الموضع، ثم قال: {أصحاب الشمال} فإنهم في الآخرة يؤتون كتابهم بشمالهم، ويقفون في موضع هو شمال، لأجل كونهم من أهل النار، ثم إنه تعالى لما ذكر حالهم في أول الحشر بكونهم من أصحاب الشمال ذكر ما يكون لهم من السموم والحميم، ثم لم يقتصر عليه، ثم ذكر السبب فيه، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ} [الواقعة: 45، 46] فذكر سبب العقاب لما بينا مرارًا أن العادل يذكر للعقاب سببًا، والمتفضل لا يذكر للإنعام والتفضل سببًا، فذكرهم في الآخرة ما عملوه في الدنيا، فقال: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين} ليكون ترتيب العقاب على تكذيب الكتاب فظهر العدل، وغير ذلك ظاهر.
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
{هذا} إشارة إلى ماذا؟ نقول: فيه وجوه أحدها: القرآن ثانيها: ما ذكره في السورة ثالثها: جزاء الأزواج الثلاثة.
المسألة الثانية:
كيف أضاف الحق إلى اليقين مع أنهما بمعنى واحد؟ نقول: فيه وجوه أحدها: هذه الإضافة، كما أضاف الجانب إلى الغربي في قوله: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى} [القصص: 44] وأضاف الدار إلى الآخرة في قوله: {وَلَدَارُ الأخرة} [الأنعام: 32] غير أن المقدر هنا غير ظاهر، فإن شرط ذلك أن يكون بحيث يوصف باليقين، ويضاف إليه الحق، وما يوصف باليقين بعد إضافة الحق إليه وثانيها: أنه من الإضافة التي بمعنى من، كما يقال: باب من ساج، وباب ساج، وخاتم من فضة، وخاتم فضة، فكأنه قال: لهو الحق من اليقين ثالثها: وهو أقرب منها ما ذكره ابن عطية أن ذلك نوع تأكيد يقال: هذا من حق الحق، وصواب الصواب، أي غايته ونهايته التي لا وصول فوقه، والذي وقع في تقرير هذا أن الإنسان أظهر ما عنده الأنوار المدركة بالحس، وتلك الأنوار أكثرها مشوبة بغيرها، فإذا وصل الطالب إلى أوله يقول: وجدت أمر كذا، ثم إنه مع صحة إطلاق اللفظ عليه لا يتميز عن غيره، فيتوسط الطالب ويأخذ مطلوبه من وسطه، مثاله من يطلب الماء، ثم يصل إلى بركة عظيمة، فإذا أخذ من طرفه شيئًا يقول: هو ماء، وربما يقول قائل آخر: هذا ليس بماء، وإنما هو طين، وأما الماء ما أخذته من وسط البركة، فالذي في طرف البركة ماء بالنسبة إلى أجسام أخرى، ثم إذا نسب إلى الماء الصافي ربما يقال له شيء آخر، فإذا قال: هذا هو الماء حقًا قد أكد، وله أن يقول: حق الماء، أي الماء حقًا هذا بحيث لا يقول أحد فيه شيء، فكذلك هاهنا كأنه قال: هذا هو اليقين حقًا لا اليقين الذي يقول بعض إنه ليس بيقين، ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن يقال: الإضافة على حقيقتها، ومعناه أن هذا القول لك يا محمد وللمؤمنين، وحق اليقين أن تقول كذا، ويقرب من هذا ما يقال: حق الكمال أن يصلي المؤمن، وهذا كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» أن الضمير راجع إلى الكلمة أي إلا بحق الكلمة، ومن حق الكلمة أداء الزكاة والصلاة، فكذلك حق اليقين أن يعرف ما قاله الله تعالى في الواقعة في حق الأزواج الثلاثة، وعلى هذا معناه: أن اليقين لا يحق ولا يكون إلا إذا صدق فيما قاله بحق، فالتصديق حق اليقين الذي يستحقه، وأما قوله: {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم} فقد تقدم تفسيره، وقلنا إنه تعالى لما بين الحق وامتنع الكفار، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم هذا هو حق، فإن امتنعوا فلا تتركهم ولا تعرض عنهم وسبح ربك في نفسك، وما عليك من قومك سواء صدقوك أو كذبوك، ويحتمل أن يكون المراد فسبح واذكر ربك باسمه الأعظم، وهذا متصل بما بعده لأنه قال في السورة التي تلي هذه:
{سَبَّحَ للَّهِ مَا في السموات} [الحديد: 1] فكأنه قال: سبح الله ما في السموات، فعليك أن توافقهم ولا تلتفت إلى الشرذمة القليلة الضالة، فإن كل شيء معك يسبح الله عز وجل.
تم تفسير السورة، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.